البشمهندس ايمن ….الحفيــد

البشمهندس ايمن ….الحفيــد
بينما كان الإبن يستعد للذهاب إلى عمله ألقى نظرةً عابرةً على والده النائم بمفرده فى غرفته , فلم يجده فى فراشه , أطال النظر فى الغرفة بحثـاً عنه فوجده ملقًـى على الأرض فأسرع إليه , ثم اتَّـصل بالطبيب المعالج لوالده , الذى سرعان ما أرسل إليه عربة إسعاف خاصة لينقل والده إلى المستشفى بعد أن تدهورت فجاءة حالته الصحية , وهناك كان الطبيب في انتظاره ونقله إلى العناية المركزة على وجه السرعة. بعد فترة استقرت حالته بعض الشيء , فسمحوا للإبن أن يختلس النظرات اليه دون أن يحدثه بشئ .
فى خارج الغرفة كانت أمه قد حضرت مسرعةً من مقر عملها لتكون بجوار زوجها الذى تقطعت صلتها الفعلية به منذ فترة طويلة وان كانا مازالا يعيشان معاً في بيت واحد , أما الإبنة التي تزوجت حديثـاً فقد حضرت مسرعةً مضطربة والدموع في عينيها ولا تكاد تتمالك أعصابها خاصة وهى تعلم أن والدها ما كان يعانى من مرض معين قدر ما كان يعانى من الشعور بالوحدة , فبرغم ما بذله من جهد لسنوات طويلة لكى تعيش أُسرته في رغد عيش لكن هذا الجهد لم يشفع له عندهم , فقد انفصل الجميع عنه خاصة زوجته التي لم تـُكِـنَّ له أي مشاعر بداخلها , وبعد أن خرج الإبن من عند والده كان عليه أن يبدو متماسكـاً أمام الجميع , وبادرته أمه تسأله بعصبية لا تتحمل الإنتظار ..ما هي حالة أبوك الآن ؟ فنظر إليها بجمود وأجابها باقتضاب حالته حرجة ..والدكتور ها يخرج دلوقت من عنده وها يقول لنا نعمل إيه ؟ كانت لحظات قاسية تلك التي مرت حتى خرج إليهم الطبيب المعالج وقال لهم ..الحمد لله لحقناه في الوقت المناسب لو تأخرنا قليلا لكان كل شيء قد إنتهى…فسألته الزوجة يعنى ها يخف من الأزمة دي بسرعة يا دكتور؟؟ فقال الطبيب لازم ننتظر حتى الصباح لنطمئن عليه وتستقر حالته فما زالت صحته في خطر حتى الان.
بعد عدة ساعات مرت بطيئة ومفعمة بالقلق , سمح لهم الطبيب بالدخول اليه لرؤيته والتحدث معه لدقائق فقط , وهرعت الإبنة إليه وهى تبكى فأخذ يداعبها كعادته ويقول لها بصوت واهن ما تخافيش ..لسه شويه..معقول أسيبك وإنت حامل وعلى وش ولادة ..نفسى أشوف حفيدي اللى جاى..أنا إشتريت له حصان حلاوة ..عشان ..مولد النبى قرب ..كل سنة وانت طيبة.. ..ياحبيبتى , فابتسمت من بين دموعها وقالت يابابا ..ياحبيبى …ده ها يكون بيبى صغير ..مش ها يعرف يأكله .. فأجابها بصوته الواهن..ما لكيش دعوة ..ما حدش يدخل بينى وبينه وصمت متعباً , وبرغم ألمه الواضح على قسمات وجهه , أردف بصعوبة قائلاً لها الحصان فى الدولاب بتاعى ..إوعى تنسى , وحاول أن يكمل كلامه لكنه لم يستطع .
إضطربت الإبنة و ارتفع صوت بكائها وتدخل الطبيب مسرعـاً وطلب من الجميع ان ينتظروا فى الخارج , فخرجوا وهم بين بكاء وانهيار الإبنة وجمود مشاعر الزوجة وعصبيتها وصمت الابن و برودة مشاعره , وبعد فترة صمت قصيرة , قال الإبن مش مفروض اتصل على أعمامي وخالي عشان يعرفوا و ويحضروا لزيارة بابا؟ فردت عليه الام بطريقتها المعهودة.. ما فيش داعى خلاص أوك كويس وها يخرج الصبح .
طالت عليهم لحظات الانتظار العصيبة رغم قصرها , وبعد فترة خرج الطبيب وطلب منهم الانصراف وترك المريض ليرتاح , لكن الإبنة أصرت على رؤيته قبل أن تنصرف , فسمح لها الطبيب أن تراه للحظات قصيرة فأسرعت إليه وقالت له مش ها امشى يابابا ..هانتظر هنا لغاية ما ترجع معايا …فرد عليها الأب قائلاً بصوت واهن وهو ينظر اليها بعيون متعبة..إوعى تنسى ..ولم يستطع أن يُــكمل وصمت مرة اُخرى , وتدخلت الممرضة وطلبت منها الخروج حفاظـاً على صحة المريض .
إنصرفوا باضطراب وهم لا يدرون ماذا سيحدث في الساعات القليلة القادمة , وتبادلوا أثناء العودة في السيارة نظرات العتاب واللوم والاتهام المكتومة وأخذ كلاً منهم يتذكر ما كان , فالأبن قد كافح أبوه حتى تخرج من كلية خاصة مرموقة بمصاريف سنوية باهظة واشترى له سيارة وسعى لدى كل من يعرف حتى التحق الإبن بوظيفة جيدة , ومن ثم انشغل الإبن بعالمه الجديد وأصدقائه وعمله وبحثه عن عروسة , أمأ الإبنة فقد قام الأب بواجبه نحوها على أكمل وجه حتى استقرت سعيدة في بيت الزوجية وانشغلت بحياتها الجديدة , أما الزوجة فقد بذل الكثير لإسعادها وكان يحلم أن تبادله المشاعر الدافئة وتنسجم معه في الطباع , لكنه لم يجد لديها شيئا من هذا كله , فقد كانت دائما مختلفة الطباع عنه ولم تقدر ما بذله من اجلها , ولم تُـكِنُ له أي مشاعر طوال سنين العشرة بينهما حتى انفصلت عنه معنوياً و جسدياً بعد ذلك , ولم يكن يجمعها به سوى بضع كلمات مقتضبة يومية في مكالمة تليفونية أثناء انشغالها بالعمل , وحتى هذه المكالمة كانت عبئا عليها فى بعض الأحيان فكانت ترسل عوضأً عنها رسالة مقتضبة جافة لا تحوى شيئا غير ما تريد من طلبات يقضيها لها.
وصلوا معا الى المنزل , وإن كان كلاً منهم منفصلاً تماما عن الآخرين حوله , و انزوى كلاً منهم في غرفته صامتاً لا يريد الكلام والمواجهة مع الآخرين, ومضت ساعات الليل بطيئة ثقيلة على الجميع , حاولوا خلالها التحايل على القلق والصمت دون جدوى , حتى صرخت الإبنة فجاءةً فيهم , فهى تريد العودة إلى المستشفى الآن فوراً , فهى تشعر أن أباها قد مات الآن بالفعل , وصمتت الأم أمام إحساس الإبنة بأبيها , فهى لم تشعر بأى إحساس تجاه زوجها وهو حى , فكيف ستشعر به وهو ميت .
عادوا مضطربين إلى المستشفى , وهناك قابلهم الطبيب أمام غرفة العناية وهو متجهم الوجه ومنعهم من الدخول , وقال لهم.. لا داعى للدخول عليه الآن , البقية في حياتكم , ثم تابع كلامه للإبنة قائلاً أنا كنت معه معظم الوقت حتى اللحظات الاخيرة وأوصاني بالرسالة المكتوبة دي عشانك , فتحت الإبنة الرسالة وهى مذهولة , لا تستطيع الكلام وقد تحجرت الدموع في عينيها وظلت كذلك للحظات طويلة مؤلمة, بعدها استجمعت نفسها وقرأت الرسالة ببطء لتجد مكتوبا فيها …ما تزعليش و سلمى لي على حفيدي ..و إوعى تنسى .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى